فجرٌ غيَّر وجهَ التاريخ… فكان ميلاد الإنسانِ في الإنسان
المفكر العربي وخبير الذكاء الاصطناعي
د. هيثم زينهم
لم يكن ميلاد النبي ﷺ حادثةً عابرةً في تاريخ البشر، ولا صفحة صغيرة في كتاب القرون؛ بل كان منعطفًا، صنع تحولًا حضاريًا عميقًا. لقد جاء ميلاده نافذة مفتوحة على فجر جديد، أشرقت منها شمسٌ ما زالت تضيء دروب الإنسانية حتى اليوم. السؤال الذي يُثير الدهشة: كيف لليلةٍ لم تُضاء بمصابيح ولا تُسجَّل بعدسات، أن تبقى أبهى من ليالي عصرنا المملوء بالأضواء والضجيج؟
وُلِد ﷺ في بيئة قاسية، لكن ميلاده ﷺ غيّرَ موازين الأرض. جاء طفلًا بين قومٍ، يعبدون الأصنام، فإذا به بعد سنوات قليلة يهدم أوهامهم قبل أن يهدم حجارتهم. لقد تحوّل صوته من بكاء وليد إلى نداء حضارة، ما زالت أصداؤه تتردد عبر الأزمان.
كان مولده ﷺ فجرًا، بدد ليلَ الجهل، ونبعًا روى قلوبًا عطشى، وشمسًا أشرقت ولم تغب. قبله ﷺ تاه الناس بين ضلال وظلام، فجاء ﷺ ليجمع المتناقضات في رسالة واحدة، يعلمنا من خلالها أن القيمة الحقيقية للحياة ليست في عدد السنين، بل في عمق الأثر.
سيرته ﷺ حيّة نابضة؛ فهو “الهدى” الذي وُلِد؛ فأنقذ من الضلال، و”الهادي” الذي سار أمام القلوب؛ فاقتدت به، وهو المنارة التي دلّت الإنسانية على سواء السبيل؛ لذلك لم يكن مولده ﷺ يومًا، يُسجَّل في دفاتر التاريخ، بل معنى يتجدد كلما عطشت روح إلى الحقيقة.
واليوم، ونحن نحتفي بذكراه، لا يكفي أن نردد القصائد، أو نضيء الشموع. إنما الواجب أن نسأل: ماذا تعني لنا هذه الذكرى في عصرنا؟ إذا كان مولده ﷺ قد حرّر العقول من أصنام الحجر، أفلا ينبغي أن تحرّرنا ذكراه من أصنام اليوم؟ من صنم المادة الذي استعبد الناس، وصنم الشهوة الذي أضعف إرادتهم، وصنم الأنانية الذي جرّدهم من إنسانيتهم.
إنّ المولد النبوي ليس مجرد مناسبة تاريخية، إنه مشروع متجدد لبناء المستقبل. فإذا أردنا أن نكون أوفياء لهذه الذكرى، فعلينا أن نستلهم من سيرته ﷺ قيم العدل والرحمة والصدق. نحتاج أن نترجم الاحتفال إلى سلوك عملي: في بيوتنا لين ورحمة، في أعمالنا صدق وإتقان، في مجتمعاتنا عدل وتكافل. فذكرى مولده ﷺ ليست لتزيين الماضي، بل لإعادة صناعة الحاضر، وفتح الطريق لمستقبل أكثر نورًا وإنسانية.